فصل: مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ قُلْنَا إِنَّ فِعْلَ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْعَرَبِ كَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ: فِعْلِهِ فِي الْمُشْرِكِينَ، وَفِعْلِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ، فَالْأَوَّلُ تَأْثِيرُ رَوْعَةِ بَلَاغَتِهِ، وَدَهْشَةِ نَظْمِهِ، وَأُسْلُوبِهِ الْجَاذِبِ لِفَهْمِ دَعْوَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، إِذْ لَا يَخْفَى حُسْنُهَا عَلَى أَحَدٍ فَهِمَهَا، وَكَانُوا يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا النَّوْعِ تَفَاوُتًا كَبِيرًا لِاخْتِلَافِ دَرَجَاتِهِمْ فِي بَلَاغَةِ اللُّغَةِ وَفَهْمِ الْمَعَانِي الْعَالِيَةِ.
فَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي أَنْطَقَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيَّ بِكَلِمَتِهِ الْعَالِيَةِ فِيهِ لِأَبِي جَهْلٍ الَّتِي اعْتَرَفَ فِيهَا بِأَنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْلُو وَلَا يُعْلَى، وَالَّذِي يُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ، وَكَانَتْ كَلِمَةً فَائِضَةً مِنْ نُورِ عَقْلِهِ وَصَمِيمِ وِجْدَانِهِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَةً أُخْرَى فِي الصَّدِّ عَنْهُ بَعْدَ إِلْحَاحِ أَبِي جَهْلٍ عَلَيْهِ بِاقْتِرَاحِهَا إِلَّا بِتَكْلِيفٍ لِمُكَابَرَةِ عَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، وَبَعْدَ أَنْ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، وَنَظَرَ وَعَبَسَ وَبَسَرَ، وَأَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ وَسَبَبِ نُزُولِ قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} (74: 11) الْآيَاتِ مِنْهَا.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَجْذِبُ رُءُوسَ أُولَئِكَ الْجَاحِدِينَ الْمُعَانِدِينَ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ تِلَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ، عَلَى مَا كَانَ مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ وَنَأْيِهِمْ عَنْهُ، وَتَوَاصِيهِمْ وَتَقَاسُمِهِمْ لَا يَسْمَعُنَّ لَهُ، ثُمَّ كَانُوا يَتَسَلَّلُونَ فُرَادَى مُسْتَخْفِينَ، وَيَتَلَاقَوْنَ فِي الطَّرِيقِ مُتَلَاوِمِينَ.
وَهَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَنْعِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه فِي الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلًا لِمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ وَبُكَائِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنَ التَّأْثِيرِ الْجَاذِبِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَّلُوا ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَفْتِنُ عَلَيْهِمْ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ، فَاتَّخَذَ مَسْجِدًا لَهُ بِفِنَاءِ دَارِهِ فَطَفِقَ النِّسَاءُ وَالْأَوْلَادُ النَّاشِئُونَ يَنْسَلُّونَ إِلَى بَيْتِهِ لَيْلًا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، فَنَهَاهُ أَشْرَافُ الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ الْعِلَّةَ لَا تَزَالُ، وَأَنَّهُمْ يَخْشَوْنَ أَنْ يَغْلِبَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانُوا أَلْجَئُوهُ إِلَى الْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ فَلَقِيَ فِي طَرِيقِهِ ابْنَ الدُّغُنَّةِ سَيِّدَ قَوْمِهِ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَبِ هِجْرَتِهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ وَهُوَ يَعْرِفُ فَضَائِلَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ قَبْلِ الْإِسْلَامِ فَأَجَارَهُ وَأَعَادَهُ إِلَى مَكَّةَ بِجِوَارِهِ، فَعَادَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، وَعَادَ النِّسَاءُ وَالنَّشْءُ الْحَدِيثُ إِلَى الِاسْتِمَاعِ لَهُ، حَتَّى اضْطَرَّ الْمُشْرِكُونَ ابْنَ الدُّغُنَّةِ إِلَى إِقْنَاعِهِ بِتَرْكِ رَفْعِ صَوْتِهِ بِالْقُرْآنِ أَوْ يَرُدُّ عَلَيْهِ جِوَارَهُ، فَرَدَّ أَبُو بَكْرٍ جِوَارَهُ اكْتِفَاءً بِجِوَارِ اللهِ تَعَالَى، وَخَبَرُهُ هَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ وَأَوْرَدْنَاهُ بِطُولِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْغَارِ (ص377 وَمَا بَعْدَهَا ج10 ط الْهَيْئَةِ).
بَلْ هَذَا التَّأْثِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى صَدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْقُوَّةِ عَنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبَيْتِ الْحَرَامِ وَفِي أَسْوَاقِ الْمَوْسِمِ وَمَجَامِعِهِ، وَعَلَى تَوَاصِيهِمْ بِمَا حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} (41: 26).
وَقَدْ أَدْرَكَ هَذَا أَحَدُ فَلَاسِفَةِ فَرَنْسَةَ فَذَكَرَ فِي كِتَابٍ لَهُ قَوْلَ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمْ يَأْتِ بِآيَةٍ عَلَى ثُبُوتِهِ كَآيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى، وَقَالَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ: إِنْ مُحَمَّدًا كَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ خَاشِعًا أَوَّاهًا مُتَأَلِّهًا فَتَفْعَلُ قِرَاءَتُهُ فِي جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِيمَانِ مَا لَمْ تَفْعَلْهُ جَمِيعُ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ الْأَوَّلِينَ (أَقُولُ): وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ الْمُرَتَّبَةِ وَكُتُبِ الْفُنُونِ الْمُبَوَّبَةِ، لَمَا كَانَ لِقَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ مِنَ التَّأْثِيرِ مَا كَانَ لِسُوَرِهِ الْمُنَزَّلَةِ.
كَانَ كُلُّ مَا يَطْلُبُهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ تَبْلِيغِ دَعْوَةِ رَبِّهِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ عَلَى النَّاسِ.
قال تَعَالَى مُخَاطِبًا لَهُ: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (6: 19) أَيْ وَأَنْذِرْ بِهِ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ مِنْ غَيْرِكُمْ مِنَ النَّاسِ. وَقَالَ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (27: 91- 93) إِنَّ رُؤَسَاءَ قُرَيْشٍ عَرَفُوا مِنْ قُوَّةِ جَذْبِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ بِوَقْعِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُهُمْ، وَعَرَفُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِجُمْهُورِ الْعَرَبِ مِثْلُ مَا لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ الْجُحُودِ وَالْمُكَابَرَةِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمُّهُ أَبُو لَهَبٍ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ: خُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، قَبْلَ أَنْ تَجْتَمِعَ الْعَرَبُ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا. وَكَانَ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى بَثِّ الدَّعْوَةِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى مَا أَفْضَى بِهِمْ إِلَى الِاضْطِهَادِ وَأَشَدِّ الْإِيذَاءِ لَهُ وَلِمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، ثُمَّ إِجْمَاعُ الرَّأْيِ عَلَى قَتْلِهِ، حَتَّى أَلْجَئُوهُمْ إِلَى الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ صَارُوا يُقَاتِلُونَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَمَا حَوْلَهَا، وَنَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ، إِلَى أَنِ اضْطُرُّوا إِلَى عَقْدِ الصُّلْحِ مَعَهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ وَكَانَ أَهَمُّ شُرُوطِ الصُّلْحِ السَّمَاحَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمُخَالَطَةِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ سَمَاعِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَدُخُولِهِمْ بِتَأْثِيرِهِ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، فَكَانَ انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ فِي أَرْبَعِ سِنِينَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمَانِ أَضْعَافَ انْتِشَارِهِ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ.

.فِعْلُ الْقُرْآنِ فِي أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ:

كَانَ كُلُّ مَنْ يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يُلَقَّنُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ- لِيَعْبُدَ اللهَ بِتِلَاوَتِهِ- وَيَعْلَمَ الصَّلَاةَ وَلَمْ يُفْرَضْ فِي مَكَّةَ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ غَيْرُهَا، فَيُرَتِّلُ مَا يَحْفَظُهُ فِي صَلَاتِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ التَّهَجُّدَ مِنْ أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَالَ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ- الَّتِي قِيلَ إِنَّهَا أَوَّلُ مَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الْوَحْيِ وَبَعْدَهَا الْمُدَّثِّرُ وَقِيلَ بِالْعَكْسِ- وَتَقَدَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} (73: 1- 4) ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهَا: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} (73: 20) أَيْ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَعْذَارَ الْمَانِعَةَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ مَا كَانَ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ كَالْمَرَضِ وَالسَّفَرِ، وَمَا سَيَكُونُ بَعْدَ سِنِينَ وَهُوَ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللهِ.
وَمِمَّا وَرَدَ فِي صِفَةِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّ الَّذِي كَانَ يَمُرُّ بِبُيُوتِهِمْ لَيْلًا يَسْمَعُ مِنْهَا مِثْلَ دَوِيِّ النَّحْلِ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَقَدْ غَلَا بَعْضُهُمْ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ حَتَّى شَكَا مِنْهُمْ نِسَاؤُهُمْ فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، وَكَانَ هُوَ يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ، وَمَا قَبْلَهَا مَثْنَى مَثْنَى، وَكَانَ هُوَ يُطِيلُ فِيهِنَّ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مُرَفِّهًا وَمُسَلِّيًا {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (20: 1 و2).
فَتَرْبِيَةُ الصَّحَابَةِ الَّتِي غَيَّرَتْ كُلَّ مَا كَانَ بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ مَفَاسِدِ الْجَاهِلِيَّةِ وَزَكَّتْهَا تِلْكَ التَّزْكِيَةَ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا آنِفًا وَأَحْدَثَتْ أَعْظَمَ ثَوْرَةٍ رُوحِيَّةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ فِي التَّارِيخِ إِنَّمَا كَانَتْ بِكَثْرَةِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَتَدَبُّرِهِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَحَدُهُمْ يَقُومُ اللَّيْلَةَ بِآيَةٍ وَاحِدَةٍ يُكَرِّرُهَا مُتَدَبِّرًا لَهَا، وَكَانُوا يَقْرَءُونَهُ مُسْتَقِلِّينَ وَمُضْطَجِعِينَ كَمَا وَصَفَهُمُ اللهُ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (3: 191) وَأَعْظَمُ ذِكْرِ اللهِ تِلَاوَةُ كِتَابِهِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ وَأَحْكَامِهِ وَحِكَمِهِ، وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي تَدْبِيرِ مُلْكِهِ، وَلَوْ كَانَ الْقُرْآنُ كَكُتُبِ الْقَوَانِينِ وَالْفُنُونِ لَمَا كَانَ لِتِلَاوَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ التَّأْثِيرِ فِي قَلْبِ الطِّبَاعِ، وَتَغْيِيرِ الْأَوْضَاعِ، بَلْ لَكَانَتْ تِلَاوَتُهُ تُمَلُّ فَتُتْرَكُ، فَأُسْلُوبُ الْقُرْآنِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ آنِفًا مَنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ، وَتَأْثِيرِهِ الرُّوحِيِّ، وَمَنِ ارْتَابَ فِي هَذَا فَلْيَنْظُرْ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا السُّورَةُ مِنْهُ وَلِيُحَاوِلْ كِتَابَتَهَا نَفْسَهَا أَوْ مِثْلَهَا بِأُسْلُوبِ تِلْكَ السُّورَةِ وَنَظْمِهَا أَوْ أُسْلُوبِ سُورَةٍ أُخْرَى، كَالسُّوَرِ الَّتِي يَتَكَرَّرُ فِيهَا الْمَوْضُوعُ الْوَاحِدُ بِالْإِجْمَالِ الْمُوجَزِ تَارَةً وَبِبَعْضِ التَّفْصِيلِ تَارَةً وَبِالْإِطْنَابِ فِيهِ أُخْرَى،- كَالِاعْتِبَارِ بِقِصَصِ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ فِي سُورِ الْمُفَصَّلِ (كَالذَّارِيَاتِ وَالْقَمَرِ وَالْحَاقَّةِ) وَفِيمَا فَوْقَهَا (كَالْمُؤْمِنُونَ وَالشُّعَرَاءِ وَالنَّمْلِ) وَفِيمَا هُوَ أَطْوَلُ مِنْهَا (كَالْأَعْرَافِ وَهُودٍ)- ثُمَّ لِيَنْظُرْ مَا يُفْضِي إِلَيْهِ عَجْزُهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الِاجْتِمَاعِ فِي هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ تَكْرَارَ الدَّعَوَاتِ الدِّينِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ هِيَ الَّتِي تُثِيرُ الْجَمَاعَاتِ وَتَدَعُّهُمْ إِلَى الِانْهِمَاكِ وَالتَّفَانِي فِيهَا دَعًّا، وَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ يَعْلَمُونَ هَذَا، وَلَكِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مِنْ طِبَاعِ الْجَمَاعَاتِ وَالْأَقْوَامِ فَوْقَ مَا يَعْلَمُهُ حُكَمَاءُ عَصْرِنَا وَسَائِرِ الْأَعْصَارِ، وَإِنَّمَا الْقُرْآنُ كَلَامُهُ، وَلَيْسَ فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ إِلَّا مَا لَهُ أَكْبَرُ الشَّأْنِ فِي انْقِلَابِ الْأَفْكَارِ، وَتَحْوِيلِ مَا فِي الْأَنْفُسِ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْأَخْلَاقِ إِلَى خَيْرٍ مِنْهَا، وَهُوَ مَا لَا يُمْكِنُ إِحْدَاثُ الِانْقِلَابِ الْإِصْلَاحِيِّ بِدُونِهِ كَمَا تَعْلَمُ مِنَ التَّفْصِيلِ الْآتِي.

.مَقَاصِدُ الْقُرْآنِ فِي تَرْقِيَةِ نَوْعِ الْإِنْسَانِ وَمَا فِيهِ مِنَ التَّكْرَارِ:

إِنَّ مَقَاصِدَ الْقُرْآنِ مِنْ إِصْلَاحِ أَفْرَادِ الْبَشَرِ وَجَمَاعَاتِهِمْ وَأَقْوَامِهِمْ وَإِدْخَالِهِمْ فِي طَوْرِ الرُّشْدِ وَتَحْقِيقِ أُخُوَّتِهِمُ الْإِنْسَانِيَّةِ وَوَحْدَتِهِمْ وَتَرْقِيَةِ عُقُولِهِمْ وَتَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا مَا يَكْفِي بَيَانُهُ لَهُمْ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ مِرَارًا قَلِيلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا تَحْصُلُ الْغَايَةُ إِلَّا بِتَكْرَارٍ كَثِيرٍ لِأَجَلِ أَنْ يَجْتَثَّ مِنْ أَعْمَاقِ الْأَنْفُسِ كُلَّ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ آثَارِ الْوِرَاثَةِ وَالتَّقَالِيدِ وَالْعَادَاتِ الْقَبِيحَةِ الضَّارَّةِ وَيَغْرِسُ فِي مَكَانِهَا أَضْدَادَهَا، وَيَتَعَاهَدُ هَذَا الْغَرْسَ بِمَا يُنَمِّيهِ حَتَّى يُؤْتِيَ أُكُلَهُ وَيَيْنَعَ ثَمَرُهُ، وَمِنْهَا مَا يَجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِهَا كَامِلَةً، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ كَمَالُهُ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ، وَمِنْهَا مَا لَا يُمْكِنُ وُجُودُهُ إِلَّا فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُوضَعُ لَهُ بَعْضُ الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ وَمِنْهَا مَا يَكْفِي فِيهِ الْفَحْوَى وَالْكِنَايَةِ.
وَالْقُرْآنُ كِتَابُ تَرْبِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ وَتَعْلِيمٍ، لَا كِتَابُ تَعْلِيمٍ فَقَطْ، فَلَا يَكْفِي أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ مَرَّةً وَاحِدَةً وَاضِحَةً تَامَّةً كَالْمَعْهُودِ فِي كُتُبِ الْفُنُونِ وَالْقَوَانِينِ، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي مَوْضُوعِ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} (62: 2) وَإِنَّنَا نَذْكُرُ هُنَا أُصُولَ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ كَمَا وَعَدْنَا عِنْدَ قَوْلِنَا إِنَّ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَعْلَى وَأَكْمَلُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْحُكَمَاءِ وَالْحُكَّامِ فَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ فَيْضِ اسْتِعْدَادِهِ الشَّخْصِيِّ، وَإِنَّنَا نُقَسِّمُ هَذِهِ الْمَقَاصِدَ إِلَى أَنْوَاعٍ وَنُبَيِّنُ حِكْمَةَ الْقُرْآنِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا بِالْإِجْمَالِ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا يَسَّرَ اللهُ لَنَا مَا وَعَدْنَا بِهِ مِنْ تَفْسِيرِ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ كُلِّهَا فِي أَبْوَابٍ نُبَيِّنُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا وَجْهَ حَاجَةِ الْبَشَرِ إِلَى ذَلِكَ الْمَقْصِدِ وَكَوْنَ الْقُرْآنِ وَفَّى بِهَذِهِ الْحَاجَةِ بِمَا نَأْتِي بِهِ مِنْ جُمْلَةِ آيَاتِهِ فِيهِ.

.النوع الْأَوَّلُ مِنْ مَقَاصِدِهِ الْإِصْلَاحُ الدِّينِيُّ لِأَرْكَانِ الدِّينِ الثَّلَاثَةِ:

إِنَّ أَرْكَانَ الدِّينِ الْأَسَاسِيَّةَ الَّتِي بُعِثَ بِهَا جَمِيعُ رُسُلِ اللهِ تَعَالَى وَنَاطَ بِهَا سَعَادَةَ الْبَشَرِ هِيَ الثَّلَاثَةُ الْمُبَيَّنَةُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (2: 62) وَهَاكَ الْكَلَامَ عَلَى كُلٍّ مِنْهَا بِالْإِيجَازِ.

.الرُّكْنُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى:

فَالرُّكْنُ الْأَوَّلُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ- وَهُوَ الْإِيمَانُ بِاللهِ تَعَالَى- قَدْ ضَلَّ فِيهِ جَمِيعُ الْأَقْوَامِ وَالْأُمَمِ حَتَّى أَقْرَبُهُمْ عَهْدًا بِهِدَايَةِ الرُّسُلِ، فَالْيَهُودُ جَعَلُوا اللهَ كَالْإِنْسَانِ يَتْعَبُ وَيَنْدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ كَخَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مِثْلَهُ. (أَوْ مِثْلَ الْآلِهَةِ) وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ يَظْهَرُ فِي شَكْلِ الْإِنْسَانِ حَتَّى إِنَّهُ صَارَعَ إِسْرَائِيلَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّفَلُّتِ مِنْهُ حَتَّى بَارَكَهُ فَأَطْلَقَهُ! وَعَبَدُوا بَعْلًا وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَصْنَامِ، وَالنَّصَارَى جَدَّدُوا مِنْ عَهْدِ قُسْطَنْطِينَ الْوَثَنِيَّاتِ الْقَدِيمَةَ، فَغَمَرَ الشِّرْكُ بِاللهِ هَذِهِ الْأَرْضَ بِطُوفَانِهِ وَطَغَتِ الْوَثَنِيَّةُ عَلَى أَهْلِهَا، حَتَّى صَارَتْ كَنَائِسُ النَّصَارَى كَهَيَاكِلِ الْوَثَنِيَّةِ الْأُولَى مَمْلُوءَةً بِالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ الْمَعْبُودَةِ- عَلَى أَنَّ عَقِيدَةَ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ هِيَ عَقِيدَةُ الْهُنُودِ فِي كَرْشَنَةَ وَثَالُوثُهُ فِي جُمْلَتِهَا وَتَفْصِيلِهَا، وَهِيَ مَدْعُومَةٌ بِفَلْسَفَةٍ خَيَالِيَّةٍ غَيْرِ مَعْقُولَةٍ، وَبِنِظَامٍ يَقُومُ بِتَنْفِيذِهِ الْمُلُوكُ وَالْقَيَاصِرَةُ، وَيُبْذَلُ فِي سَبِيلِهِ الْقَنَاطِيرُ الْمُقَنْطَرَةُ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَيُرَبَّى عَلَيْهِ الْأَحْدَاثُ مِنَ الصِّغَرِ تَرْبِيَةً وِجْدَانِيَّةً خَيَالِيَّةً لَا تَقْبَلُ حُجَّةً وَلَا بُرْهَانًا، فَهَدْمُ مَعَاقِلِ هَذِهِ الْوَثَنِيَّةِ وَحُصُونِهَا الْمُشَيَّدَةِ فِي الْأَفْكَارِ وَالْقُلُوبِ مَا كَانَ لِيَتِمَّ بِإِقَامَةِ بُرْهَانٍ عَقْلِيٍّ أَوْ عِدَّةِ بَرَاهِينَ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ فِيهِ مِنْ دَحْضِ الشُّبَهَاتِ وَتَفْصِيلِ الْحُجَجِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالْخَطَابِيَّةِ بِالْعِبَارَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ؛ لِذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ الْمَسَائِلِ تَكْرَارًا فِي الْقُرْآنِ مَسْأَلَةَ تَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي أُلُوهِيَّتِهِ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِهِمْ مِلْكًا وَعَبِيدًا لَهُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ دُونِهِ نَفْعًا وَلَا ضُرًّا لِأَحَدٍ وَلَا لِأَنْفُسِهِمْ إِلَّا فِيمَا سَخَّرَهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْخَلْقِ كَمَا شَرَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَأَمَّا تَكْرَارُ تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ وَهُوَ انْفِرَادُهُ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّشْرِيعِ الدِّينِيِّ فَلَيْسَ سَبَبُهُ كَثْرَةَ الْمُشْرِكِينَ بِرُبُوبِيَّتِهِ تَعَالَى، بَلْ سَبَبُهُ إِقَامَةُ الْحُجَّةِ بِهِ عَلَى بُطْلَانِ شِرْكِ الْعِبَادَةِ بِدُعَاءِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى لِأَجْلِ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِأُولَئِكَ الْأَوْلِيَاءِ وَابْتِغَاءِ شَفَاعَتِهِمْ عِنْدَهُ، فَشَرُّ الشِّرْكِ وَأَعْرَقُهُ فِي الْكُفْرِ وَأَكْثَرُهُ فِي ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ إِنَّمَا هُوَ تَوَجُّهُ الْعَبْدِ إِلَى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَشْعُرُ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ مِنْ كَشْفِ ضُرٍّ وَجَلْبِ نَفْعٍ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْأَسْبَابِ، فَقَدْ ذُكِرَ الدُّعَاءُ فِي الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، بَلْ زُهَاءَ سَبْعِينَ بَعْدَ سَبْعِينَ مَرَّةً؛ لِأَنَّهُ رُوحُ الْعِبَادَةِ وَمَحْنُهَا، بَلْ هُوَ الْعِبَادَةُ الَّتِي هِيَ دِينُ الْفِطْرَةِ كُلُّهُ، وَمَا عَدَاهُ مِنَ الْعِبَادَاتِ فَوَضْعِيٌّ تَشْرِيعِيٌّ.
بَعْضُ آيَاتِ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِدُعَائِهِ تَعَالَى، وَبَعْضُهَا نَهْيٌ عَنْ دُعَاءِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، وَمِنْهَا حُجَجٌ عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ أَوْ عَلَى إِثْبَاتِ التَّوْحِيدِ، وَمِنْهَا أَمْثَالٌ، تُصَوَّرُ كُلًّا مِنْهُمَا بِالصُّوَرِ اللَّائِقَةِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَمِنْهَا إِخْبَارٌ بِأَنَّ دُعَاءَ غَيْرِهِ لَا يَنْفَعُ وَلَا يُسْتَجَابُ، وَأَنَّ كُلَّ مَنْ يُدْعَى مِنْ دُونِهِ تَعَالَى فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ وَأَنَّ أَفْضَلَهُمْ وَخِيَارَهُمْ كَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ يَدْعُونَهُ هُوَ وَيَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَيْهِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ، وَأَنَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِ الَّذِينَ يَدْعُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْ مَعَ اللهِ- وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَطُولُ تَلْخِيصُهُ.
وَثَمَّ أَنْوَاعٌ أُخْرَى مِنْ آيَاتِ الْإِيمَانِ بِاللهِ تَعَالَى تُغَذِّي التَّوْحِيدَ، وَتَصْعَدُ بِأَهْلِهِ دَرَجَاتٍ مُتَفَاوِتَةً فِي السُّمُوِّ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى وَالتَّأَلُّهِ وَالتَّوَلُّهِ فِي حُبِّهِ مِنَ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّسْبِيحِ، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى مَمْزُوجَةً بِبَيَانِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ، حَتَّى أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ وَالنِّسَاءِ وَالْإِرْثِ وَالْأَمْوَالِ. وَبِحِكَمِ الْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ لِأُمُورِ الْعَالَمِ، وَسُنَنِهِ فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ وَفِي شُئُونِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَوَضْعِ كُلِّ اسْمٍ مِنْهَا فِي الْمَوْضِعِ الْمُنَاسِبِ لَهُ مِنْ رَحْمَةٍ وَعِلْمٍ وَحِكْمَةٍ وَقُدْرَةٍ وَمَشِيئَةٍ وَحِلْمٍ وَعَفْوٍ وَمَغْفِرَةٍ وَحُبٍّ وَرِضًا وَمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْهُ وَالرَّجَاءِ فِي فَضْلِهِ إِلَخْ وَنَاهِيكَ بِمَا سَرَدَ مِنْهَا سَرْدًا لِجَذْبِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ إِلَى كَمَالِهِ الْمُطْلَقِ وَفَنَائِهَا فِيهِ كَمَا تَرَاهُ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ الْحَشْرِ فَتَأَمَّلْهَا، وَفِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْحَدِيدِ: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.